من أوائل الحاجات اللي بنتعلمها كعاملين في مجال التراث إن التراث سياسة. ومن محاسن الصدف إننا لما بنجوجل "تعريف السياسة " بيطلع لنا تعريفين
«التعريف الأول: «كيفية توزيع القوة والنفوذ ضمن مجتمع ما أو نظام معينا
التعريف الثاني: «العلاقة بين الحكام والمحكومين أو الدولة وكل ما يتعلق بشؤونها أو السلطة الكبرى في المجتمعات الإنسانية وكل ما يتعلق بظاهرة السلطة
والتعريف الأول اللي بيربط السياسة بالقوة والنفوذ هو الأكثر صلة. التراث – لأنه قيّم – أكيد له دور في بناء تركيبات القوة والنفوذ في المجتمع. والقيمة نتاج حكاية معينة (التراث مهم لأنه جميل – أو لأنه مرتبط بحدث تاريخي معين – أو لأن فئة معينة من الناس بتبجله دينيًا ... الخ الخ الخ) وفي أغلب الأحيان حنلاقي إن التراث غالبًا بيكون متعدد المعاني والدلالات وإن اختياراتنا للقيمة الأعلى من وجهة نظرنا مرتبطة بقيمنا إحنا الشخصية وبالتالي عمره ما حيكون موضوعي 100% - وفي الحقيقة مش لازم ندعي إنه موضوعي لكن لازم نشتغل على فهمنا لتحيزاتنا. والتحدي هو إننا نكون صادقين مع نفسنا ومع الآخرين في توصيف وتحليل التحيزات دي وناخدها كأساس نبني عليه منظومة عادلة وتشاركية لاتخاذ قراراتنا بخصوص كيفية إدارة التراث. قرارات فيها نسبة كبيرة من الحلول الوسط انحيازها المفروض يكون للي صوته أضعف مش أقوى.
وممكن يكون تعريف مجلس التراث القومي لجنوب أفريقيا من أكثر التعريفات الدالة على أهمية تشكيل التراث بوعي وعدل:
«التراث هو ما يتم الحفاظ عليه من الماضي كذاكرة جمعية حية لشعب – ليس فقط لإعلام الحاضر عن الماضي – بل لإعداد الأجيال القادمة لصياغة مستقبلهم. التراث يخلق إحساسًا بالهوية ويؤكد على التجذر والاستمرارية حتى يكون التغيير الذي تأتي به ديناميكية الثقافة نتاجًا لاختيارات واعية لصياغة حياة أفضل وليس تغييرًا من أجل التغيير1»
وموضوع الصوت ده بيرجعنا تاني للحكاية أو السردية اللي بتتحكي وده بالتالي بيوصلنا للتاريخ ولاختيار المؤرخين لنوعية التاريخ اللي بيركزوا عليها. لأن التاريخ الأكثر انتشارًا هو السردية الأقوى اللي بيتشكل على أساسها فهمنا لتراثنا - اللي هو تمثيل مادي أو غير مادي للي ورثناه عن الأجداد. إذًا المؤرخ كمان لازم يدرك تحيزاته ويتعامل مع حرفته تعامل مش بس مهني ولكن كمان أخلاقي. والبعد الأخلاقي هنا هو مجهود مستمر لمراعاة مجموعة واضحة من القيم والمثل – ما يشار له في اللغة الإغريقية – واللي أصبح دارج في اللغات الأوروبية التانية ب إيثوس (ethos). بنشوفه في الاختيارات والعلاقات اللي بتشمل أو تستبعد ناس بعينهم وفي اختيار المقياس الزمني أو المكاني اللي بنشتغل عليه - هل بنسرع في سردنا لأحداث معينة أو بنفوتها تمامًا مثلًا وبعدين نختار لحظات معينة ونطوّل فيها2؟
إحنا – كمبادرة الأثر لنا – أدركنا ده لما اشتغلنا في حي الحطابة التاريخي اللي كان مهدد بالإزالة لأن السردية التاريخية للمنطقة دي بتركز على القلعة كتراث بيحكي التاريخ السياسي لحكام مصر وغير مهتمة بحي الحطابة اللي برة باب القلعة مباشرة ولا يتم الاعتراف بأهمية تراثه اللي بيمثل التاريخ الحي للحياة اليومية للناس العادية. وجزء من محاولاتنا لإنقاذ الحطابة من الإزالة ركز على بلورة ونشر التاريخ اليومي لحي الحطابة كما يحكيه سكانها.
المؤرخ انتون دي بيتس مهموم بضرورة كتابة التاريخ بطريقة مسئولة. وجهة نظره إن كتير من المؤرخين بيكتبوا التاريخ بإهمال قد يكون متعمد أو غير متعمد – لكنه في النهاية خطر3. والصراع المستميت على إعادة كتابة تاريخ فلسطين من أكثر الأمثلة الصارخة لخطورة التاريخ وهو صراع مش بس على العدالة في سرد التاريخ لكن كمان على خلق مساحة لتلقي السردية دي.
«الحقائق لا تتحدث عن نفسها – بل تحتاج إلى سردية مقبولة اجتماعيًا لاستيعابها ونشرها وادامتها»
4إدوارد سعيد
كتابة: ميّ الإبراشي
1. ‘Heritage is what is preserved from the past as the living collective memory of a people not only to inform the present about the past but also to equip successive generations to fashion their future. It is what creates a sense of identity and assures rootedness and continuity, so that what is brought out by dynamism of culture is not changed for its own sake, but it is a result of people's conscious choice to create a better life’. (National Heritage Council South Africa 2020, 2020/2021–2024/2025 Medium Term Strategic Framework, National Heritage Council, Pretoria, South Africa, quoted in R. Sloggett & M. Scott. Climatic and Environmental Threats to Cultural Heritage. 2022.
3. A. de Baets. Responsible History. 2009.